كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأنت لو نظرت إلى الدنيا نظرة فاحصة، تجد أنها متغيرة متبدلة، فالصحيح يصبح مريضًا، والغني يصبح فقيرًا، والقوي يصبح ضعيفًا.
إذن: فمتاع الدنيا متغير ولا عصمة لك فيه، وأنت لا تستطيع أن تعصم نفسك من المرض أو من الضعف أو من الفقر؛ لأن هذه كلها أغيار تحكمك ولا تحكمها أنت؛ تقهرك ولا تستطيع أنت أن تقهرها. فإن رضيت بمتاع الدنيا اليوم فأنت لا تضمن استمراره إلى غد.
ولهذا ينبغي ألا تؤخر تنفيذ ما يكلفك به الله؛ لأنك الآن تستطيع أن تؤديه، لكن أنت لا تضمن إن كنت قادرًا غدًا أم لا. كذلك لا تأخذ التكليف على أنه قد يسلبك حريتك أو مالك، بل هو يسلبك ويعطيك في نفس الوقت. فإذا أمر الله سبحانه بأن تُخرِجَ الزكاة، قد تعتقد أن هذا يُنقصُ مالك، أو تقول: هذه غرامة. نقول: إن هذا في ظاهر الأمر قد يكون صحيحًا، ولكنه سبحانه يأخذ منك هذا المال فيزيده لك ويُنميه فإذا بالجنيه الواحد قد تضاعف إلى سبعمائة مِثْل، ثم تضاعف إلى ما شاء الله، كما أن هذا الحكم الذي يأخذ منك الآن وأنت غني، هو بذاته الذي سوف يعطيك إن افتقرتَ ولجأت إلى الناس. فإذا كان الحكم الذي سيأخذ هو الذي سيعطي تكون هذه عدالة وتأمينًا ضد الأغيار، وعليك أن تقارن الصفقة النفعية بمقابلها، وساعةَ تعطي أنت الذي لا يملك، لابد أن تتذكر أنه قد يأتي عليك يَوْمٌ لا تملك فيه.
وكلمة دنيا بالنسبة لحياتنا أعطتنا الوصف الطبيعي الذي ينطبق عليها؛ لأن الدنيا مقابلها العليا. والحياة العليا تكون في الآخرة. فإذا كانت هذه هي الحياة الدنيا. فلماذا تربط نفسك بالأدنى إلا أن يكون ذلك خَوَرًا في العزيمة؟
والمثال للقوة الإيمانية هو: سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكان قبل أن يصبح خليفة المؤمنين يرتدي أفخر الثياب ويتعطر بأجمل العطور، وكان الناس يدفعون أموالًا لمن يغسل ثياب عمر بن عبد العزيز ليدخلوا ثيابهم مع ثيابه حتى تمتلئ عطرًا. وذلك من غزارة وجود العطر الذي كان يضعه عمر بن عبد العزيز على ثيابه فتخرج كل الثياب مليئة بالعطر. وعندما أصبح عمر بن عبد العزيز خليفة، كانوا يأتونه بالثوب الخشن الذي كان يرفض ارتداءه قبل الخلافة، فيرفضه ويقول: هاتوا أخشن منه، وامتنع عن العطر، أي: أن معاييره قد تغيرت وليس في هذا أدنى تناقض، بل هو علو في الحياة، ولذلك قال: اشتاقت نفسي إلى الإمارة فقلت لها: اقعدي يا نفْسُ، فلما نلْتُهَا اشتاقت نفسي إلى الخلافة فنهيتها عن ذلك، فلما نلْتُها؛ أي نال الخلاَفة، اشتاقت نفسي إلى الجنة فسلكتُ كل طريق يؤدي إليها.
وهكذا نعرف أن سلوكه رضي الله عنه لم يكن في تناقض بل تعلية للصفقة الإيمانية. كان دائمًا في علو يريد أن يواصله، فقد اشتاق أولًا إلى الإمارة، فلما تحققت أراد أن يعلو فاشتاق للخلافة، فلما تحققتْ أراد أن يعلوَ فاشتاق إلى الجنة، إذن: فهو دائمًا في عُلُوٍّ.
وأقول: ليس في سلوكه أدنى تناقض؛ لأن علماء النفس يفسرون التناقض في السلوك البشري على أنه اختلاف في المقارنة، فالإنسان يقارن بشيء ثم يقارن بشيء آخر وهكذا؛ لأن كل شيء في الدنيا نسبي. ومعنى النسبية أن ينسب الشيء لما حوله، فإذا قلت: إنني أسكن فوق فلان، فأنت في نفس الوقت تسكن تحت فلان الذي يعيش في الطابق الذي يعلوك.
إذن: فأنت فوق فلان وتحت فلان في نفس الوقت، فلا تأخذ نقطة وتغفل عن الأخرى، وهذا اسمه معنى إضافي أي: أن المعاني لا تتحقق بذاتها، ولكن بالنسبة إلى شيء تقاس به، وكذلك المقاييس بين الأشياء يجب أن نقيسها بالأمور التي تُصعد لك القيمة. فأنت إذا نظرت إلى الدنيا؛ تجد أن الحق سبحانه أسماها: دُنْيا ولم يجد اسمًا أقلَّ من هذا ليسميها به، لماذا؟ لأنك تتنعم في الدنيا على قدر وجودك فيها، أي على قدر عمرك، وهو مهما زاد وطال فهو سنوات معدودة، وقد يكون متاعك منها حتى سنِّ الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين. أو أكثر من ذلك أو أقل. ومتاعك فيها بما تحققه قدراتك، فالذي عنده ألف جنيه يتمتع على قدرها، والذي عنده عدة ألوف متاعه على قدرها، وصاحب الملايين متاعه أكبر.
إذن: فكل واحد يتمتع بقدر ما عنده من مال. وحتى إن وصل الإنسان إلى أعلى متاع في الدنيا؛ متاع صاحب الملايين، فهذه الملايين إما أن تزول عن صاحبها، وإما أن يترك هو هذه الملايين بالموت. وهذه تتحقق وهذه تتحقق. إذن: فنعمة الدنيا إما أن تنخلع منك أو تنخلع أنت منها.
فإذا جئتَ إلى المقابل وهو الآخرة تجد أن النعيم فيها دائم لا يزول عنك، وأنت خالد لا تزول عن النعمة بالفناء أو الموت، وأنت لا تتمتع في الآخرة بقدراتك أنت، بل بقدرة الله سبحانه. فكأن المتاع أكبر كثيرًا من قدرتك، وأعلى كثيرًا من كل ما تستطيع أن تحققه. فمثلًا: إن كان معك ريال وجاءك رجل فقير فأعطيته له ليأكل به، تكون في ظاهر الأمر قد آثرتَ الفقير على نفسك؛ لأنك أعطيته كل ما تملك ليأكل به وحرمت نفسك منه، ولكنك في الحقيقة فضَّلْتَ نفسك على الفقير؛ لأنك أعطيته هذا الريال ليكون عند الله عشرة إلى سبعمائة ضعف، فمَنْ منكما الذي استفاد؟ ومَنْ منكما الذي انتفع؟ إنه أنت.
ولذلك نجد أن الدين الصحيح ضد الأنانية الحمقاء، ويُعْلي فيك الأنانية العاقلة بأن يجعلك تحب نفسك حبًا أعلى. فأنت حين تتصدق تحب نفسك، ولذلك تريد أن تعطيها الأعلى والأنفع. فظاهر الأمر أنك أعطيت، وفي حقيقته أنك قد أخذت. وأنت حين تعطي إنسانًا مساويًا لك كأن تقدم له هدية في مناسبة معينة، تنتظر أن يرد إليك الهدية بمثلها في مناسبة أخرى. إذن: فالعطاء مُتَساوٍ، وقد يرد هذا الإنسان الهدية، وقد لا يردها. وقد ينوي ردها ولكن تصادفه ظروف لا تُمكِّنه من أن يردها لك. لكن الحق سبحانه يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً...} [البقرة: 245].
إذن: فحينما تعطي ابتغاء وجه الله فأنت لا تحصل على عطاء مُسَاوٍ لما أعطيت. لكنك تحصل على عطاء مضاعف أضعافًا مضاعفة. والذي يعطيك الثواب هو الله سبحانه وتعالى دائم الوجود، ولن ينفد عطاؤه لك؛ لأنه دائم القدرة، ولن يأتي عليه وقت يكون غير قادر على أن يرد لك ما أعطيت؛ لأن عنده كنوز السماوات والأرض؛ وهو سبحانه قادر على أن يضاعف لك مهما كانت قيمة عطائك. فإن فضَّلْتَ الحياة الدنيا على الآخرة، فأنت تقيس بمقاييس الكمال عندك وهي مقاييس ساقطة وهابطة، ولو كنت تملك المقياس الصحيح لعرفتَ أن الذي يحقق لك النفع الأكبر هو أن تعطي وتعمل طلبًا للآخرة وليس للدنيا. ولذلك فالحق سبحانه يقول هنا: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} أي: أنكم أردتم الحياة الدنيا بدل الآخرة. وهذه مقارنة غير عاقلة وغير حكيمة.
وكلمة {مِنَ} تدل على البدل في قوله: {بالحياة الدنيا} ومادة البدل والاستبدال البيع والشراء، ونعرف أن الباء تدخل على المتروك، فأنت تقول: اشتريت الشيء بكذا درهم، أي: تركت الدراهم مقابل شرائك الشيء، كأن هؤلاء الراضين بالحياة الدنيا قد أخذوا الدنيا بدلًا من الآخرة، وهذه صفقة تخلو من العقل والحكمة.
وبعد أن استنكر الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يرضوا بالحياة الدنيا ويتركوا الآخرة يقول سبحانه: {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} والمتاع: هو ما يستمتع به. والإنسان لا يستطيع أن يوقن أنه سيستمتع بالحياة، وهذا أمر مطعون فيه، فليس كل كائن حي مستمتعًا بالحياة، هناك أشقياء وهناك تعساء، وهناك مَنْ يُدريهم ماذا يحمل المستقبل لهم؟ ألا يمكن أن يكون استمتاعهم هذا وقتيًا؟ ألا يمكن أن يأتيهم ظرف من الظروف؛ أو قدر من الأقدار يملأ حياتهم بالشقاء؟
إننا نجد العقلاء- حين يرون في نعمة الله عليهم ما يكدر حياتهم- يشكرون الله، بينما نجد الإنسان السطحي التفكير والفهم يستاء وينفعل ويزيد الموقف معاناة.
العاقل- إذن- يعرف أن الإنسان يعيش في دنيا أغيار، ومعنى أننا نعيش في دنيا أغيار أنه تأتي أحداث تنقلنا من حال إلى حال، أي من الغنى إلى الفقر. أو من الصحة إلى المرض إلى غير ذلك من أحوال الدنيا المتقلبة المتغيرة، ففي الدنيا لا يدوم حال، وما دامت الدنيا أغيارًا؛ فأحوال الناس تتغير فيها دائمًا.
وهَبْ أن إنسانًا وصل إلى القمة التي لا يوجد أعلى منها. نقول له: لا داعي أن يأخذك الفرح والكبر والخيلاء، ولا تنس أنك تعيش في دنيا أغيار، وأن دوام الحال من المحال، فلو دامت لغيرك ما وصلتَ أنت إلى القمة؛ لأن مَنْ كان عليها سقط فصعدتَ أنت.
إذن: فمعنى هذا أنك وإن وصلتَ للقمة فلن تثبت عليها وتبقى هكذا بلا تغيير. وما دمتَ قد وصلت إلى أعلى ما يمكن، فالتغيير الوحيد الذي يمكن أن يحدث لك هو أن تنزل؛ لأنك وصلت إلى قمة الصعود، ولم يَعُدْ بعدها شيء تصعد إليه. فالتغيير المتوقع لابد أن يكون إلى أسفل، ويقال: ترقَّبْ زَوالًا إذا قِيل تَمّ، ولهذا نجد أهل الحكمة والبصيرة يقولون: إن المصائب في الأموال والأنفس من تمائم النعمة، وكأن الحق لا يريد أن يتمم النعم؛ لأنه إن تمت تزول؛ لأن المصيبة ما دامت قد حدثت فلابد أن تزول.
وسبحانه حين يقول: {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} يريد أن يبين لنا أن متاع الآخرة أكبر، فأنت حين تقول: شيء في شيء. فأيهما يكون أكبر؟ إنه الذي يدخل فيه الشيء الآخر، فإذا قلنا: فلان في البيت، فمعنى ذلك أن البيت أكبر من فلان هذا، وإلا لما احتواه داخله. وإن قلنا: محمد في جدة أو في المملكة السعودية أو في مصر؛ يكون هناك ظرف ومظروف، والمظروف عادة أوسع من الظرف، وسعته كبيرة لدرجة أنه تحيط بالظرف من كل جوانبه.
وقول الحق سبحانه: {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} معناه: أن متاع الدنيا يتوه في متاع الآخرة؛ لأن متاع الآخرة أوسع ويحتوي متاع الدنيا ويزيد، وما دام الكلام بقدرة الله سبحانه وتعالى، فمعنى ذلك أن سعة متاع الآخرة بالنسبة لمتاع الدنيا لا نهائية. فإذا زاد الحق سبحانه وقال: {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} فهو لإعطاء صورة لسعة متاع الآخرة.
لكن هذا الاستثناء في قوله تعالى: {إِلاَّ قَلِيلٌ} إنما هو لمخاطبة العقول بالنسبة لقمة المتمتعين في الدنيا.
ومثال هذا: أنك تجد إنسانًا قد أعطاه الله قمة متاع الدنيا، وتجده يعتقد أن المتاع لا يمكن أن يزيد على ما وصل إليه، فيوضح الحق سبحانه وتعالى له: لو أنك متمتع بكل ما تستطيع أن تعطيه لك الدنيا فهو بالنسبة لمتاع الآخرة قليل.
وإذا كان غير المتمتع بشيء من متاع الدنيا ينظر إلى مَنْ أعطاه الله سبحانه وتعالى قمة متاع الدنيا ويتساءل: هل هناك متاع أكثر من ذلك؟ إن هذا الإنسان متمتع بكذا وكذا وكأنه يعيش في الجنة، ولا أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك متاع أكثر من هذا. نقول له: لا، إن ما تحسبه نهاية لما يمكن أن يتمتع به الإنسان هو بالنسبة لمتاع الآخرة قليل.
إذن: فقوله سبحانه: {إِلاَّ قَلِيلٌ} ليس مقصودًا به المتعة العادية للدنيا التي يتمتع بها الناس، ولكن المقصود به متاع القمة الذي لا يصل إليه ولا يحدث إلا لأفراد قليلين في العالم. فقد يعيش إنسان في قصر ضخم، وحوله المئات من الناس يخدمونه، وعنده من الأجهزة الإلكترونية وغيرها ما يجعله بمجرد أن يريد شيئًا يضغط على زر صغير فيجد ما يريده أمامه، وكل شيء حوله يحقق له رغباته، بل إنه يعيش في درجة الحرارة التي يريدها داخل قصره، وعنده أفخر أنواع الطعام والشراب، وإذا أراد أن ينتقل من مكان إلى آخر؛ ضغط على زر فيتحرك به الكرسي إلى المكان الذي يريده وكل مَنْ حوله يطيعونه طاعة عمياء، فكل رغباته أوامر، وحياته تشبه الحلم الجميل.
إذا عاش إنسان في هذا الجو وانبهر بهذه النعم كلها يستوقفه رب العزة سبحانه ويوضح له: لا تنبهر، فهذا المتاع الذي تعيش فيه بالنسبة للآخرة قليل.
فإذا قرأ الناس أو سمعوا أو شاهدوا ما يعيش فيه هذا الإنسان من متعة وانبهروا بها، يوضح لهم الله: لا تنبهروا ولا يأخذكم العجب، فكل هذا الذي ترونه أمامكم بالنسبة لمتاع الآخرة قليل.
إذن: فقوله سبحانه: {إِلاَّ قَلِيلٌ} يدل على أن فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تحب القليل من النعم بل تريد الكثير، ولهذا نجد الحق سبحانه وتعالى يُنفِّر عباده من أن تفتنهم نعم الدنيا مهما بلغت، فيوضح لهم: لا تظنوا أن هذه النعم كثيرة، بل إنها نعم قليلة بالنسبة لما ينتظركم في الآخرة، فإذا كان الإنسان بفطرته يحب كثرة النعم، ففي هذه الحالة لن تفتنه نعم الدنيا، بل سوف يطلب نعم الآخرة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أن ابن آدم أعطي واديًا ملآن من ذهب أحبَّ إليه ثانيًا، ولو أعطي ثانيًا أحب إليه ثالثًا».
أي: أن الإنسان الذي امتلك واديين يريد أن يحتفظ بالواديين كما هما ويطمع في امتلاك الوادي الثالث، رغم أنه قد لا يعيش لينفق مقدار وادٍ واحد. فالإنسان بطبعه لا يحب القليل من النعم بل يطلب الكثير، لماذا؟ لأن كثيرًا من الناس ينسون الآخرة، ويعتقدون أن هذه الحياة الدنيا هي كل شيء، ولهذا تجد الإنسان منهم يريد أن يحتاط لنفسه، فإذا أخذ ما يكفيه يريد أن يحتاط لأولاده، فإذا كان عنده ما يكفيه هو وأولاده يريد أن يحتاط لأحفاده.